ثمة اختلاف بين اللغوين في البسملة: بسم الله الرحمن الرحيم، أيهما أبلغ الرحمن، أم الرحيم؟ فمن اللغوين من قال أن الرحمن أبلغ لأنها سبقت الرحيم، ومنهم من قال أن رحيم أبلغ لأنها على وزن فعّال التي تفيد كثرة وقوع الحدث، وقبل الدخول في الفصل بين الفريقين نستعين بقليل من الفيزياء.
السعة والشدة:
تخيل معي دائرة الضوء التي تسلط على الممثلين على خشبة المسرح، يمكنّا وصف هذه الدائرة بطريقتين، الأولى: عن طريق وصف سعتها: فنقول أن دائرة الضوء واسعة، ضيقة، متوسطة السعة، أو بطريقة أكثر تحديدًا نقول قطرها كذا وحدة طول، والطريقة الأخرى عن طريق وصف شدة الإضاءة: فنقول خافتة، أو متوسطة أو شديدة الإضاءة، أو بطريقة أدق، نقول شدة إضاءتها كذا شمعة.
ومن الملاحظ إننا لا نستطيع الاستغناء عن أحد الطريقتين في الوصف؛ لأن هناك هالات ضوء متسعة وذات إضاءة خافتة، وأخرى ذات إضاءة باهرة، وكذا هالات ضوء ضيقة إضاءتها قوية أو باهتة، وقس على ذلك القدرة، فمثلا القدرة الكهربية تحدد بواسطة حاصل ضرب الشدة في الاتساع أي الجهد (الفولت) في شدة التيار، فهناك بطاريات ذات فولطية منخفضة لكنها تعطي شدة تيار عظيمة كبطارية الدراجات البخارية، وهناك منابع قدرة تعطي فولطية عظيمة ولكنها تعطي شدة تيار منخفضة كدارة القدرة في شاشة التلفزيون، وعليه فلا نستطيع وصف الفولطية أو التيار بمفردهما للتعريف بقدرة الدارة الكهربية، فالأمر يتطلب وصف الاثنين معًا أي الشدة (الحدة، درجة التأثير) والسعة (نطاق التأثير).
الرحمن الرحيم:
الرحمن صيغة مبالغة على وزن فعلان أي ذو رحمة واسعة تشمل الكل الإنس والجن، الكبير والصغير، الرجل والمرأة، المؤمن والكافر، أي وصفًا لسعة الرحمة أي نطاق تأثير الرحمة، أما الرحيم فهي صياغة مبالغة على وزن فعيّل فهي تعني كثير الرحمة، يرحم مرة واثنان وعشرة وألف وأكثر، أي دالة في الشدة، شدة الرحمة.
إذن رحمة رب العالمين وصفت بما نَصف به القدرة في العلوم الطبيعة، السعة والشدة معًا، وهو أمر نادر ما تجد لغويًا يفطن إليه، بدلالة اختلافهم في أمرها، أيهما أبلغ، الرحمن أم الرحيم، فسبحان الله، أما جمال التعبير تجده بالبدء بصيغة الرحمن أي بسعة الرحمة طمأنةً للسامع أنه داخل في الرحمة، أي أن نطاق رحمة رب العالمين نطاقًا واسعًا، ثم يتلوها طمأنة بكثرة مرات الرحمة، حتى لا يظن السامع أن نطاق الرحمة واسع ولكنه ضعيف التأثير، ولذا تبعت كلمةُ الرحمن كلمةَ الرحيم الدالة على شدة الرحمة أينما وجد المرحوم، أما إذا عكس الوضع أي بسم الله الرحيم الرحمن، لظن السامع أول أمره أنه غير داخل في نطاق الرحمة وأن لله أفرادا خاصون اختصهم برحمته وليست الرحمة واسعة النطاق لأن كلمة الرحيم تعني الكثرة، وليس سعة الرحمة، فمثلا لو سماع أحد طلاب الصف الأول قول القائل: طلاب الصف الأول كلهم ناجحون، ونصفهم بتقدير ممتاز، خير من سماعه: طلاب الصف الأول نصفهم بتقدير ممتاز وكلهم ناجحون، فالتعبير الأول إجمال لحقيقة الموقف طمأنة للسامع ثم تفصيل، أي أن رب العالمين رحم السامع من سوء الظن بنفسه فبدأه بلفظ رحمن ليطمئنه أن نطاق الرحمة واسع، فسوف يكون مشمول فيها لاتساعها، ثم بادره بكلمة رحيم زيادة في الطمأنة بأنه سوف يرحمه مرة واثنين وثلاث وإلى ما شاء ربنا رب العالمين.